بقلم: د. إبراهيم وحيد شحاتة
مدير تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة
استشاري التمويل المستدام
ومدرب معتمد للتنمية المستدامة
في ظلّ التحديات الاقتصادية الراهنة وتقلبات الأسعار وتزايد الاعتماد على التكنولوجيا المالية، لم تعد الثقافة المالية ترفًا، بل ضرورة حياتية لكل مواطن مصري. فالمقصود ليس مجرد امتلاك حساب بنكي أو استخدام محفظة إلكترونية؛ بل الأهم هو إدارة الدخل والإنفاق والمدخرات بوعي، ومعرفة متى يُلجأ إلى الاقتراض وكيفية الاستثمار الرشيد للحفاظ على الاستقرار المالي.
إنّ من يمتلك ثقافة مالية راسخة يتجنّب الديون غير الضرورية، ويكوّن احتياطيًا للطوارئ، ويخطّط لمستقبله بثقة. وهذا هو جوهر الصحّة المالية: أن تخدمك أموالك لا أن تُثقل كاهلك.
من الشمول المالي إلى الثقافة المالية
حققت مصر خلال السنوات الأخيرة قفزات ملموسة في الشمول المالي. وبحسب بيانات البنك المركزي المصري، بلغت نسبة المواطنين الذين يمتلكون حسابات بنكية أو محافظ إلكترونية نحو 76% بنهاية عام 2024، بعدما كانت أقل من النصف قبل سنوات قليلة. كما تجاوز عدد المحافظ الإلكترونية النشطة 46 مليون محفظة، بينما تخطّى عدد بطاقات «ميزة» الوطنية 30 مليون بطاقة.
هذه مؤشرات مهمّة على توسّع الوصول إلى الخدمات المالية. غير أنّ السؤال الأهم: هل تحسّنت جودة الاستخدام؟ فالفائدة محدودة إذا امتلك المواطن حسابًا دون إدراكٍ لتكلفة القروض أو دون خطةٍ واضحة للادخار والإنفاق. ومن هنا تبرز الثقافة المالية بوصفها المكمّل الضروري للشمول المالي، إذ تحوّل الأرقام إلى وعي وسلوك مستدام.
التعليم المالي من المدرسة إلى المجتمع
ترتكز التنمية المالية المستدامة على التعليم المبكّر. وفي هذا الإطار، بدأت وزارة التربية والتعليم بالتعاون مع البنك المركزي المصري إدخال مفاهيم مبسّطة حول الادخار والتخطيط المالي في المناهج الدراسية. ومع ذلك، يلزم تعميق الخطوات من خلال:
- إدراج برامج عملية في المدارس والجامعات عن إدارة الأموال.
- تطوير تطبيقات تعليمية تفاعلية تُعرّف بالقيم المالية الأساسية.
- تنظيم مسابقات تشجّع ثقافة الادخار والتخطيط بين الشباب.
هذه الإجراءات تساهم في تكوين جيلٍ يُدرك قيمة المال ويُحسن إدارته بمسؤولية.
دور البنوك المصرية في ترسيخ الثقافة المالية
تُسهم البنوك المصرية بدور متنامٍ في ترسيخ الوعي المالي لدى مختلف فئات المجتمع، من خلال مبادرات ومشروعات واقعية أطلقتها بالتعاون مع البنك المركزي والمؤسسات التنموية.
فقد تبنّى البنك الأهلي المصري عددًا من البرامج الميدانية للتوعية في الجامعات والمدارس والمناطق الريفية، ضمن فعاليات “الأسبوع العربي للشمول المالي”، إلى جانب تنظيم ورش عمل لروّاد الأعمال حول إدارة الديون والموازنات التشغيلية. كما يشارك البنك بانتظام في مبادرات تمكين المرأة ماليًا بالتعاون مع المجلس القومي للمرأة، ومبادرة “حياة كريمة” لتثقيف الأسر الريفية حول الادخار وإدارة النفقات.
وأطلق بنك مصر برامج توعية رقمية عبر موقعه الرسمي تحت عنوان “التعليم المالي والشمول المالي”، تتضمن محتوى مبسطًا حول إدارة الحسابات والادخار واستخدام الخدمات الإلكترونية بأمان، إضافةً إلى حملات ميدانية في المحافظات خلال “يوم الادخار العالمي” لتعزيز ثقافة التوفير بين الشباب والنساء.
أما البنك التجاري الدولي (CIB)، فقد أنشأ مركزًا متكاملًا للتثقيف المالي على موقعه الإلكتروني بعنوان “Financial Literacy Center”، يقدّم موارد تعليمية مصوّرة تشرح المفاهيم المصرفية الأساسية، مثل القروض، والبطاقات، والتمويل العقاري، وإدارة الديون، بهدف مساعدة العملاء على اتخاذ قرارات مالية رشيدة.
كما أطلق بنك الإسكندرية (AlexBank) مبادرة بالشراكة مع مبادرة “حياة كريمة” في محافظات الصعيد، تُركّز على تدريب السيدات والشباب على إدارة مشروعاتهم الصغيرة، وتوفير بطاقات “ميزة” مجانية لتسهيل تعاملاتهم المالية الرسمية.
وخصّص بنك التنمية الصناعية (IDB) منصة إلكترونية للتثقيف المالي تُعرّف المواطنين بحقوقهم المالية، وآليات فتح الحسابات، وإدارة المشروعات الصغيرة، في إطار التزامه بمبادئ الشمول المالي والاستدامة.
وإلى جانب هذه الجهود، بدأت عدة بنوك في دمج الثقافة المالية داخل التطبيقات الرقمية عبر أدوات ذكية تُرسل للمستخدمين تقارير شهرية عن نمط الإنفاق، وتنبيهات بالادخار، وإرشادات لتجنّب الديون الاستهلاكية.
إنّ هذه المبادرات تمثل تحولًا نوعيًا في دور البنوك المصرية من مجرد مؤسسات مالية تقليدية إلى مؤسسات تنموية تُعنى بتثقيف المجتمع وتعزيز وعيه المالي، إدراكًا بأنّ استدامة الربحية لا تنفصل عن رفع كفاءة العميل في إدارة أمواله.
الثقافة المالية كدرعٍ ضد الأزمات
أظهرت الأزمات الاقتصادية الأخيرة—سواء خلال جائحة كورونا أو موجات التضخّم—أنّ أصحاب الثقافة المالية كانوا أكثر قدرةً على الصمود ومواجهة الطوارئ. فالأسرة التي تمتلك خطة مالية ومدخرات احتياطية تحافظ على توازنها، بينما يتعرض غير المستعدين لضغوطٍ قاسية.
وعليه، الثقافة المالية ليست رفاهية، بل أداة من أدوات الأمن الاقتصادي والاجتماعي. فكل مواطن واعٍ ماليًا يُعدّ عنصر قوة في منظومة الاستقرار الوطني.
الدور المؤسّسي والوطني
يتبنّى البنك المركزي المصري استراتيجية واضحة لنشر الثقافة المالية عبر مبادرات متعددة، من أبرزها:
- الاستراتيجية القومية للشمول المالي 2022–2025 التي تركّز على دمج الشرائح الأقل وعيًا ماليًا.
- الأسبوع العربي للشمول المالي الذي تُنظّمه البنوك سنويًا في مختلف المحافظات لتقديم جلسات تعريفية وتدريبية.
- مبادرات الشمول المالي للمرأة والشباب الرامية إلى رفع مستويات الوعي لدى الفئات الأكثر احتياجًا.
كما بدأت وزارة التضامن الاجتماعي في إدماج التوعية المالية ضمن برامج الدعم مثل “تكافل وكرامة”، حتى لا يقتصر الاعتماد على الدعم النقدي، بل يمتد إلى إجادة إدارة الموارد وتنمية المدخرات الصغيرة.

تابعنا علي وسائل التواصل الاجتماعي