بقلم: محمد عبدالمعوض الجلّادي
دبي – في قاعة امتلأت بأكثر من خمسمئة مشارك من مختلف الجنسيات، انعقد اليوم مؤتمر اللغة العربية والتربية الإسلامية، حيث تَصدّر الحضور المصري المشهد بنسبة لافتة؛ إذ تجاوزت نسبة المحاضرين المصريين 60%، فيما قُدّرت نسبة المصريين من بين المشاركين بما يقارب 90%. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل دلالة حيّة على أن مصر ما زالت خزان الخبرة العربية ومصدر الكفاءات التعليمية في المنطقة.
لكن ما يستحق الإشارة أكثر من الأعداد، هو جودة اللسان. فقد جاءت المداخلات، والعروض، والأسئلة بالفصحى السليمة، واضحة المبنى عميقة المعنى، دون تكلف أو تلعثم. بدا جليًا أن الفصحى لدى هؤلاء ليست واجب منصة، بل عادة يومية يُفكّرون بها قبل أن ينطقوا بها. وفي الوقت نفسه، قدّم الحضور المصري الرد العملي على حملات التشكيك الافتراضية التي طالت نطق بعض الحروف—خصوصًا حرف الجيم—فقد التزم الكثيرون بالنطق المعياري حين تطلب المقام العلمي، وأثبتوا في الوقت ذاته أن النطق القاهري جزء أصيل من التنوع العربي الصحيح، وأن القدرة على الانتقال بين النطقين بحسب السياق علامة اقتدار لا مجال للهجاء فيها.
المؤتمر لم يكن احتفالية شكلية، بل ساحة اشتباك معرفي حقيقي. طُرحت فيه موضوعات متقدمة مثل: دور الذكاء الاصطناعي في تعليم العربية، توظيف المنصات التكيفية لتشخيص الأخطاء، بناء مهام كتابية تنمّي مهارات التعبير والتفكير النقدي عبر منهجية STEM، وتجارب عملية للتقييم بالأداء بدلًا من الاختبارات الورقية. المصريون، محاضرون وحضورًا، كانوا في قلب هذا الاشتباك، يقدمون خططًا تطبيقية تربط الفصحى بالمنتجات التعليمية الرقمية، بدءًا من نماذج توليد الموضوعات والمصححات النحوية الذكية، وصولًا إلى مختبرات سرد تعاونية تُعلّم البيان لا الحفظ.
الخلاصة التي خرجت بها هذه التجربة الميدانية أن من يدافع عن العربية بحق، هو من يُحسن خدمتها في التفاصيل؛ في صياغة درسٍ، أو بناء مثالٍ، أو طرح سؤالٍ يوقظ عقل الطالب. ومن يشكك في حراسة المصريين للفصحى فليأتِ إلى قاعات المؤتمرات حيث تُختبر اللغة بالفعل: نصٌّ مُحكَم، سؤالٌ مُحكِم، ومعلمٌ يعرف كيف ينتقل بين المعياري واللهجي دون أن تسقط الهيبة أو يضيع المعنى.
مصر لا تدّعي الوصاية على الفصحى، لكنها تثبت يومًا بعد يوم أنها تحرسها بالفعل. والأرقام التي سُجلت في هذا المؤتمر، والنبرات الواثقة التي صدحت في القاعة، تكفيان لتقديم شهادة واضحة: الفصحى ليست شعارًا عند المصريين، بل حرفة وضمير.
تابعنا علي وسائل التواصل الاجتماعي